في رواية قواعد العشق الأربعون تقول الكاتبة التركية إليف شافاق في القاعدة الأولي: “إن الطريقه التي نري فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نري فيها انفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب إلي عقولنا سوي الخوف والملامه، فهذا يعني أن قدرا كبيرا من الخوف والملامه يتدفق في نفوسنا، أما إذا رأينا الله مفعما بالمحبه والرحمة، فإننا نكون كذلك”

وفي تلك المقولة التي عبرت بها الكاتبة عن رؤيتها لدور الله في حياة المؤمنين، والسلوك الاخلاقي القائم علي صورة الله الموصوفة في كتابه المقدس، نجد العلاقة بين توجه الإنسان في الرؤية والفعل ونظرته لنفسه والآخر وبين الصفات التي يتصف بها ذلك الإله الذي يكن له الإنسان  بالعبادة والتبجيل، ومن خلال شغفي لمتابعة مجرايات الأحداث التي مرت بها الدول العربية وحركتها في التغيرات والثورات التي كانت يبنوعا لتفجير نزعات الإنسان ومحاولته للسيطرة علي المجتمع، ولا يختص الحديث عن الجانب السياسي، بل الجانب الاجتماعي الذي أعاد تشكيل الكيان الإنساني  لتلك الدول العربية، ربما أكثر ما ميز تلك التغيرات التي لحقت ببلادنا الشرقية في السنوات الماضية هو بروز الجماعات التي تشكلت من خلفية دينية، والدعوة إلي إعلاء الإنسان عن طريق السير نحو المجتمع الديني.

أحلام وردية

من أكثر السمات التي أشتهرت بها شعوبنا العربية هي سمة التدين، ربما يأخذ التدين في بلادنا صور عدة وإتجاهات مختلفة  إلا إن الجوهر يصبح في تعريفه متقارب بنسبة كبيرة وهو سعي الإنسان إلي تطبيق مشيئة الله علي الأرض، وتفادي المعاصي والذنوب التي تقود الإنسان بعيدا عن الله، لكن الأختلاف الجذري يكمن في صفات الإله ووصاياه التي يختارها الإنسان لتطبيقها علي الأرض، وكانت الضرورة لتأمل تلك الصفات في الدعوة إلي تطبيق الوصايا الدينية علي المجتمع، فيتحول الإنسان من كونه حر الإرادة في تحديد مساره الروحي والاخلاقي إلي كائن مجبر علي التعايش مع تطبيق تلك الوصايا الدينية.

ومع ذروة الاندفاع الحماسي الذي طال بلادنا عقب التغيرات التي طرأت علينا في الآونة الأخيرة، كانت الدعوة إلي المجتمع المثالي حاضرة بقوة، كون الإنسان يتطلع دائما إلي تحسين حياته علي جميع المستويات، وماذا سيكون الإنسان أن لم يحاول جعل حياته أفضل؟

وكانت الثقة الكبري قد وضعت في الرهان علي نجاح الإنسان علي جميع المستويات مع تطبيق تلك القواعد الدينية، ولكن ماذا كانت النتيجة؟

الصدمة الكبري

كانت الحسرة من نصيب ذلك الإنسان البرئ الذي تطلع إلي الحياة المثالية عن طريق إرساء الدين في جميع تفاصيل الحياة، فباتت الحروب تخرب بلاده، وسادت النزاعات المسلحة التي تحركت بدافع تطبيق الدين تقتل السلام الذي تطلع إليه وتطلخ الحياة كلها بالأسود، فتشردت الأسر، وساد العنف في الأرجاء، ففرت الناس خارج البلاد، وفضلت مواجهة أمواج البحار العاتية والموت المحدق بهم نتيجة الهجرات للدول الاوروبية علي التعايش مع نتيجة تطبيق الدين في الحياة!

المحبة مقابل الكراهية

وفي الحديث عن تطبيق الدين بالشكل الذي جعل حياة الإنسان بائسة لأبعد الحدود، حادثة عرضت علي شاشات العالم وعلي مرأي ومسمع الجميع في عصرنا الحديث، ففي عام 2015 تم خطف بعض العمال المسيحيين في ليبيا علي يد تنظيم مسلح ذات مرجيعة دينية متشددة، وتمت إذاعة عملية الإعدام بصورة تقسعر لها الابدان، وقد شهد جيلنا تلك الحادثة لتظل شاهدة علي النتيجة التي وصل إليها الإنسان في محاولته لتطبيق الدين علي الآخر، كانت النتيجة شاهدة علي أفتقاد الإنسان لروح المحبة التي هي أساس كل خير يعم علينا.

وفي المقابل تعرض لنا منصة البي بي سي العالمية قصة راهب مسيحي في إيطاليا التي شهدت اجتياح فيروس كورونا عام 2020، فبعد إصابة الأب جيوسيبي بيرارديلي، البالغ من العمر 72 عاما بفيروس كورونا، نقل إلي مستشفي بمدينة لوفيري بيرغامو، والتي كانت تعد من اسوأ المناطق في إيطاليا التي حل بها الوباء، فتم توفير جهاز تنفس له، وكانت حالته بدأت علي نحو كبير من الأسقرار، ليتفاجأ العالم بخبر وفاة الأب بيراديلي بعد أن نزع جهاز التنفس من عليه وقرر اعطائه لشاب صغير قد نقل إلي نفس المستشفي نتيجة تدهور حالته الصحية، ليدفع ذلك الراهب حياته ثمنا لشراء حياة شاب لم يكن حتي يعرفه!

وتناقلت تلك القصة عبر الصحف العالمية لتظل شاهدة علي المحبة التي تفوقت علي النزعة البشرية في البقاء والحفاظ علي النفس، لتتم المحبة بصورتها السماوية التي تعطي الأفضلية للغير دائما، فتكون المحبة سببا للحياة وليس للموت، دافعا للسلام وليس للحرب.

المحبة أم الدين؟

في رسالة الرب يسوع المسيح كان الهدف الجلي هو التحرر من القالب الجامد الذي يضع الإنسان داخل الدين، ليصبح الإنسان حرا من فكرة السعي المستمر نحو التدين الظاهري التي تخلو من روح المحبة، وكانت العبادة المقبولة أمام الله في المسيحية ليست تلك التي تفرض علي النفس والآخر بصورة القانون الملزم والمتبع بعواقب وخيمة تقع علي عاتق كل يخالف الدين، بل إن المسيح في رسالته كان ثائرا علي ذلك النظام التقليدي من الدين، داعيا إلي إرساء روح المحبة التي هي في الأساس العبادة المقبولة امام الله.

ففي التدين الظاهري الذي يخلو من روح المحبة يتشكل الإنسان من روح التعصب والنبذ، وتخلو الروح من الطهارة المنشودة، ففي أنجيل متي الأصحاح الثالث والعشرون يقف المسيح امام رؤساء اليهود الذين يشكلون الفكر الديني التقليدي المتشدد ليصرخ في وجوههم بقوله: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة.”   

لنتأمل بتدقيق النتائج التي آل إليها الناس اليوم في ظل التمسك بالتدين الشكلي الذي يخلو من روح المحبة، فحالات التحرش تملئ شوارعنا، الأغتصاب وجرائم العنف ضد المرأة والطفل، مئات الحالات من الطلاق، الظلم في الميراث، نبذ الآخر بصورة مطلقة ورفض أبسط صور المحبة التي قد تقدم إليه بدافع مخالفته للعقيدة!

وأما العبادة في المسيحية فهي عبادة مختلفة تتجسد من العمل الفعلي الذي يعتمد علي المحبة والسلوك المتبع في ذلك نحو الآخر، فنجد يعقوب في رسالته يتحدث عن مفهوم الديانة في المسيحية فيقول: “الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم.”

ولا وجود لفرض الهيمنة الدينية ومظاهر التدين في المسيحية فالمحبة هي أساس المسيحية كلها فيأتي القديس بولس الرسول التي بنيت تعاليمه علي شخصية المسيح فيحدد أوجه المحبة المسيحية في رسالته إلي اهل كورنثوس فيقول: المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ

ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء

ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق

وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء.

المحبة لا تسقط أبدا.

ماذا لو كانت روح المحبة المسيحية تسود النفس بين الحالات التي نصادفها علي منصات التواصل الاجتماعي، هؤلاء الذين يظنون أن خدمة الله تكمن في الشماتة بما أصاب من يخالفهم المعتقد، يسبون ليلا ونهارا كل من يعترضهم الرأي، يفرحون في موت الآخر وكأن الموت ليس نهايتنا جميعا سواء!

فالعبادة الشكلية الظاهرية لا تخلق سوي المزيد من العنف تجاه الآخر، وروح الكراهية هي الأساس في جميع الشرور التي تواجهنا يوميا من التحزب والعنصرية.

محبة المسيح قادرة علي التغيير

وروعة المسيحيه تكمن في قبولي ان المسيح يدخل الي قلبي ويعطيني حياه جديده ويطهرني بدمه من كل خطيه فاتمتع بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس فاستطيع ان يتدفق من قلبي محبة المسيح الفائقة المعرفه ويمتلا قلبي بالقداسه والتقوي العمليه

ففي النهاية إيهما يتوجب علي الإنسان أن يتبع ويختار، هل المظاهر الدينية لازالت موضع أختبار علي الوصول إلي النتائج التي يرجوها الإنسان في تحسين صورة حياته، وبناء الصورة الإنسانية التي تبحث عنها البشرية في بلادنا، أم أن لصورة المحبة التي دعا إليها المسيح منذ 2000 سنه تقريبا هدفا بعيدا عن متناول الإنسان في حياته!

واليوم هو ما نحتاج إليه ليس التدين بل المحبة، فالمحبة هي عمق المسيحية، والمحبة هي سر الحياة التي تشتري الروح ولا تهدرها، اليوم ما نحتاج إليه هو المسيح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *