أنتشرت ظاهرة الإلحاد في مجتمعنا اليوم بشكل غير مسبوق، حتي أن مواقع التواصل الاجتماعي باتت تعج بالصفحات التي تتبني التوجه الإلحادي، في هجوم مستمر علي الإيمان بكل صوره القديمة والحديثة، والذي ساعد في انتشار ظاهرة الإلحاد بكل تأكيد فهو عصر التكنولوجيا، فعبر الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي يصبح العالم كقرية صغيرة بمختلف أفكاره ومعتقداته أمام من يتصفحون الأنترنت كل يوم، ومن ثم تتحول الفكرة بشكلها البسيط داخل المجتمع إلي ظاهرة فجة، لنجد أعداد الملحدين تتزايد يوميا، لأن الأمر لم يعد مقتصرا فقط علي قضية الإيمان بعينها، بل أصبحت ظاهرة بل كما يطلقون عليه (تريند اليوم)، فاليوم نحن بحاجة إلي تفسير وتفكيك لتلك الظاهرة، محاولين فهم الأسباب والدوافع، ليس بكون الإلحاد مشكلة تهدد الإيمان أو موقف المسيحية من الإلحاد، بل من أجل المناقشة والطرح، مع رفضنا الشديد للهجوم الشخصي علي الأفراد، ليست قضيتنا قضية فرد له توجه إيماني بعينه وإنما القضية هي قضية إيمانية وفكرية، وفي المواجهة نناقش الأفكار ونطرح الرؤية ولا ننبذ أي شخص، فالمسيحية قائمة في الأساس علي المحبة الغير مشروطة للآخرين بمختلف توجهاتهم ومعتقداتهم.

تاريخ الإلحاد

الإلحاد بمفهومه العام هو عدم الاعتقاد بوجود الله، وتتنوع المذاهب الفكرية والفلسفية الإلحادية بين الحجج العقلية والمنطقة، ولا يمكننا وضع تاريخ محدد لظهور الفكر الإلحادي، ففي الكتاب المقدس يخبرنا الوحي الإلهي علي فم داود النبي في المزمور الرابع عشر “قال الجاهل في قلبه ليس إله”، اي أن عدم الاعتقاد بوجود إله موجود منذ زمان بعيد، وتنقسم الحجج حول الإلحاد لعدة مذاهب، فمنهم من يطلق عليهم الطبيعيون، وهم الذين ينادون بطيبيعة الأشياء ووجودها علي صورتها الحالية دون الحاجة  لوجود الخالق، معتمدين علي بعض النظريات العلمية التي تفسر أصل الوجود مثل نظرية الانفجار العظيم التي تفسر أصل الكون، ونظرية التطور التي تفسر أصل الحياة علي الأرض، وهم يرفضون صورة الإيمان لإنه منافي لطبيعة الحواس المادية، حيث الرفض لكل ما هو غير محسوس وغير ملموس.

وبدأ الفكر الإلحادي في الإنتشارعقب الثورة الفرنسية عام 1715، حيث أنفصلت الدولة عن الكنيسة وأصبحت أمور الدين محصورة فقط داخل الكنائس، ومن هنا تعددت الثورات في البلاد الأوروبية وعلي غرار الثورة الفرنسية كمثال يحتذي به في الحرية، فتحررت أوروبا بداية من عصر النهضة من سلطة الكنيسة وبدأت العلوم والفلسفات والآداب المختلفة في الانتشار علي نطاق واسع، وكان عصر التنوير يتميز ببعض الأفكار التي ربما ساعدت علي أنتشار فكرة الإلحاد بمذاهبه المختلفة، فكانت الافكار في عصر التنوير تركز علي العقل والأدلة  والبرهان المنطقي فهما الأساس في الوصول لكل أنواع المعرفة، مرورا بالتقدم الصناعي الذي شهدته اوروبا وكان دليلا ملموسا علي قدرة الإنسان علي بناء حضارة مختلفة بواسطة العقل البشري، ومن ثم يشهد القرن التاسع عشر تقدما غير مسبوقا في العلوم والنظريات العليمة في المجالات المختلفة مثل الفيزياء والكيمياء والطب وعلم النفس، لتمر الأيام حتي نأتي إلي القرن العشرون، حيث أشرس الحروب في تاريخ البشرية بكاملها، الحربين العالميتين الأولي والثانية، لتكشر عن انيابها بشرور مريعة، فيجد الإنسان نفسه وحيدا أمام معضلتي الألم والموت، فيتسائل مجددا أين إنت يا الله، إلا يهمك اننا نهلك؟

وصولا إلي القرن الواحد والعشرون مع التقدم التكنولوجي، وأمكانية تداول البيانات والمعلومات بين جميع سكان الأرض بسهولة دون السفر عن طريق الأنترنت وهو ما سهل علي أنتقال الأفكار المختلفة من مجتمع لآخر.

العقل والله

في البداية علينا أن نفرق بين طبيعة الأشياء المادية وطبيعة الله، فطبيعة المادة مدركة بالحواس البشرية، كون الطبيعة تشكل لنا الحيز الواسع والكون الفسيح الذي نعيش فيه، فمن خلال العلوم التي تعتمد علي القواعد المنطقية والمنهج التجريبي نستطيع فحص طبيعتنا لمعرفة الآليات التي تسير بها، فجميع البشر ممتنون بالضرورة  للعلم والعلماء علي ما قدموه من أجل تحسين حياة الإنسان، ولكن في المقابل لا يستطيع العلم أن يفسر القضايا الميتافيزيقية أو جوهر الأشياء الغير مادية، مثل الروح والأخلاق والكينونة والصيرورة، ومن هنا نستطيع ادراك الفارق بين أدوات المعرفة المختلفة، ففي العقل ادراك المادة، ولكن معرفة الله هي معرفة روحية وليست مادية، ففي وحي الكتاب المقدس تكن الرسالة لتفسير الظواهر الطبيعية أو تقديم نظريات علمية، بل كانت الرسالة هي رسالة روحية في الأصل، تهتم بخلاص الإنسان الروحي، فمن أين جاء الخلط بين اداتي المعرفة بين العقل والروح؟.

عبادة الله في المسيحية عبادة روحية، فكما عرف المسيح طبيعة الله للمرأة السامرية “الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا”، فليست معرفة الله تتطلب البرهان العقلي أو المنطق الذي يخضع له تفسير الظوهر الطبيعية، بل معرفة مختلفة تأتي عن طريق الأختبار الروحي لمعرفة الله.

ويخبرنا الوحي الإلهي علي فم معلمنا بولس الرسول عن مفهوم الإيمان ” وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى”، فنحن لا نؤمن من خلال الدلائل المنطقية علي وجود الله بل الإيمان موقف شخصي يتخذه الإنسان نتيجه الأختبار، يقول الفيلسوف الهندي مانو:”الإله هو الكائن الذي لا يمكن أن تحويه الحواس المادية، وليس بمقدور العقل أن يدركه علي ما هو عليه. وذلك لاستحالة الكائن الجزئي أن يحوي الكائن الكلي”، الله هو روح وعرفته معرفة روحية عن طريق الأختبار وله مقومات روحية ملموسة في حياة المؤمن.

لننتقل إلي حياة الأديب الروسي الشهر فيودور دوستويفسكي، ففي عام 1854 قبض عليه بتهمة الأنضمام لجماعية سياسية سرية، وكان من قبلا غير مهتما بقضية الإيمان بل يكاد يكون ملحدا لشدة ثقافته، ولم يسمح له بدخول أي كتب معه في السجن عدا الأنجيل فقط، وفي ذلك الوقت أنصب دوستويفسكي علي دراسة الأنجيل وشخصية المسيح الأنجيلية، حتى أنه قام بمراسلة صديقته التي أحضرت له العهد الجديد في السجن، وقام بتقديم الشكر لها ثم أردف قائلا: “أنا كطفل شكاك ليس لدي إيمان حتى اللحظة، وأوقن بأني سأبقي كذلك إلى القبر، ولو أثبت لي شخص ما أن الحقيقة ليس المسيح، يجب أن أختار البقاء مع المسيح بدلا من الحقيقة”

ففي الإيمان موقف شخصي تماما لا يعتمد علي الأثبات المادي والمنطقي فحسب  وإنما يعتمد ايضا علي المعرفة الروحية من خلال الولاده الثانيه (الولاده من فوق) ، وكما قال الفليسوف توما الأكويني:”أن الله ليس كما نتصوره أو نفهمه بمدراكنا العاجزة، فإذا عرفنا الله بمفهومنا يكف عن أن يكون إلها، فالعقل البشري أضيق من أن يحدد اللامحدود، لكننا نستطبع أن نعرفه فقط، لا أن نصل إلي إدراكه”

وجود الله والشر

الربط بين الله ومشكلة الشر تظهر دائما برفض شخص الله المتحكم في كل تفاصيل الحياة، كون الله خالقا لطبيعة مسيرة وغير مخيرة، فبالتالي لا يمكننا أن نعبد الإله المسءل عن كل تلك الجرائم والشرور التي ترتكب في حق البشرية من حروب ومجاعات وأوبئة، ولكن موقف المسيحية من الإنسان موقف مغاير تماما لتلك النظرة، فالإنسان في المسيحية هو حر في سلوكه وحكمه، ولا تدخل من الله في تحديد أفعال البشر بل أن المسيح قال “مملكتي الان ليست من هذا العالم” أي أن العالم الحاضر الشرير ذو السياسات الفاسدة التي تنتج الحروب والمظالم لا يخضع لمنطق الله ولا تعاليمه، بل أن الأسباب دائما تجعلنا نتأمل كيف أن ابلشرية أنحرفت عن طريق الله مستخدين حريتهم التي منحها أياهم في ذلك، والمجاعات التي تضرب بعض الدول مهددة حياة الملايين بالفناء هل كان لله يد في ذلك؟ بالطبع لا، لنتأمل قليلا ما حدث ببعض الدول في السنوات القليلة الماضية، مثل ما حدث بالعراق وسوريا، من نهب وقتل ودمار وأغتصاب، فدافع الإنسان اللا اخلاقي يجعله يرتكب مثل تلك الأفعال الشنيعة، وما هو إلا إنسانا حرا مثلي ومثلك عندما نقرر أطعام القطط والكلاب في الشوارع، فالشر نابع من سلوك الإنسان الذي نأي بنفسه بعيدا عن الله ووصاياه، الشر هو الأستخدام الخاطئ للحرية التي وهبها لنا الله وقد قال المسيح: “مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم”

اي أن العالم الذي نعيش فيه لا يخضع لملك وارادة الله بل للإنسان الذي سلك مسلك ابليس كما قال المسيح:” أن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء”، وبهذا قد خبرنا المسيح علي سلطان الشيطان الذي هو رئيس هذا العالم المادي، بنقيض صفاته في الشيطان، لأن ليس للشيطان شيئا في المسيح.

فالله ليس المسؤل عن كل تلك الجرائم، الله ليس المسؤلا عن قتل الأطفال وأغتصاب الضعيف، الله ليس مسؤلا عن  نزاعات الدول علي الموارد فتتحول بعض الدول إلي الثراء وتغدو الدول الأخري فقيرة معدمة تضربها المجاعات ويتشتت مواطنيها ويهلكون جوعا.

الموقف الشخصي من رجال الدين

نسمع أحيانا عن بعض التجارب السلبية من الشباب من خلال التعامل مع بعض رجال الدين داخل الكنيسة، فيثار التساؤل: هل الأخطاء الشخصية تؤدي بنا إلي الإلحاد؟

ما هي العلاقة التي تربط بيت الإيمان بالله وأقتراف بعض الأشخاص للأخطاء ولو حتي داخل الكنيسة؟، الحقيقة أن الأخطاء الشخصية يتحملها الشخص ذاته في أرتكابها، فعند سماع خبر وقوع خادم أو قسيس في الخطأ يجب أن لا نلوم الله والإيمان، لأن الجميع تحت الخطأ وطبيعتنا غير معصومة من الخطية، حتي لو وصلنا لأعلي المناصب الكنسية، فالخادم والقسيس لا يمثلون الله، بل لهم دور في أرشادنا الروحي، وبخلاف ذلك هم أيضا غير معصومين من الخطأ، فمن غير المعقول أن يحاكمك القضاء علي جريمة أرتكبها أحد أقربائك! هذا بالضرورة ينطبق علي الموقف من الإيمان المبني علي صورة بعض رجال الدين الذين أخطؤا.

المجتمع دافعا للإلحاد

ربما من بعض الأسباب التي مسعناها مؤخرا من الشباب الذين أتخذوا من الإلحاد مذهبا لهم عن بعض الدوافع التي دفعتهم نحو الإلحاد، كانت من بين تلك الدوافع هو تطبيق الدين في المجتمع وعلي الرغم من ذلك فالمنظومة الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع تفشل يوما بعد يوم!

وههنا يجب علينا طرح سؤالا هاما: ماهو الدين الذي يتم تطبيقه في المجتمع بهذا الشكل وماهي مقومات هذا الدين؟

فمن خلال التفكير في ذلك السؤال نستطيع الوصول إلي نتيجة ودور المسيحية في حياة الفرد، فالمسيحية ليست حركة اجتماعية وليس بها ما تسمي بتطبيق الحدود الاجتماعية علي كل من يخالف قواعدها، بل أن الأيمان المسيحي أختبار شخصي من الإنسان لله، لا علاقة للمسيحية بما تراه في مجتمعك اليوم، فالشعب المتدين بطبعه لا يمل من إدانة الغير، والحاق الأذي بكل من يخالفونه العقيدة والسلوك، المسيحية تستنكر التحرش، المسيحية تستنكر القتل تحت أي مسمي من المسميات، المسيحية لا تعاقب المرتد، المسيحية تدعو إلي محبة الغير كمحبة النفس تماما، إذا عليك أعادة النظر في المنظومة الدينية والاخلاقية التي يطبقها الناس في المجتمع وتحديد مبادئها لمعرفة الصواب وليس بالرفض النهائي لشخص الله ووجوده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *