في شتاء عام 2018 كنت في زيارة لمدينة الإسكندرية، التقيت هناك ببعض الأصدقاء، وكانت تجري العادة بيننا دائما أن نتناقش في بعض القضايا عن طريق محادثات مواقع التواصل الاجتماعي، تطرقنا لبعض التساؤلات التي تخص التاريخ وتقسيمه، وحول بعض الشخصيات المحورية، ثم جاء التساؤل عند شخصية المسيح، وكان من بين هؤلاء الأشخاص المجتمعين حينها شابا غير مؤمنا، يبلغ قدرا كبيرا من الثقافة والمعرفة، فطرح على سؤالا: من يكون المسيح؟

في البداية ترددت في الإجابة، كون الشاب من خلفية غير مسيحية فماذا ستكون إجابتي؟ وعن من سوف أتحدث؟ اهو المسيح إله المسيحية ام النبي عند البعض؟

في البداية لم أتطرق للحديث عن مقومات العقيدة التي نؤمن بها نحن المسيحيون، بل تركت بعض الأصدقاء الحاضرين يطرحون رؤيتهم عن شخصية المسيح، كانت بعض الرؤي إيجابية والأخري سلبية، لكن ما يلفت الإنتباه حقا عند طرح السؤال عن شخصية المسيح، هو عدم القدرة علي التعبير بشكل مناسب وسريع حول تلك الشخصية التي قسمت التاريخ بوجودها، وفي الدراسات التي طرحت منذ قرون حتي يومنا هذا أهتماما غير مسبوق بشخصية قد يعتبرها البعض إنها مجرد شخصية تاريخية! إلا اننا سنحاول في هذا المقال شرح بعض النقاط التي تخص جوهر العقيدة المسيحية، ونظرة الكتاب المقدس لشخص المسيح، لماذا نعبد المسيح وما هي سمات لاهوته المقدس؟

 من هو المسيح؟

شهادة الأنجيل عن المسيح

يخبرنا الأنجيل بشكل تفصيلي عن  ميلاد المسيح الذي هو من نسل داود الملك، ثم تأتي شهادة الأنجيل عن ميلاد المسيح وتجسده من العذراء مريم بواسطة الروح القدس، وأما عن عمل الروح القدس في قضية التجسد فهو عمل إلهي خاص، فروح الله هو أصل الحياة، ومن خلال الروح القدس يتجسد الله متخذا صورة الجسد، فمن خلال رحم السيدة العذراء تجسد المسيح بصورة معجزية دون تدخل بشري في ذلك بل بإرادة إلهية لخطته في خلاص البشرية من الفساد، ومنح البركة والتجديد للطبيعة البشرية التي أبتعدت عنه جراء الخطية، ثم بعد ذلك تبدأ رسالة المسيح كمبشر جائل بين أطياف المجتمع اليهودي مناديا بتعاليمه، تلك التعاليم الروحية التي رسمت لنا نحن المؤمنون الطريق الذي نسلكه في محبة الغير كمحبتنا لأنفسنا، كانت رسالة المسيح تختلف عن كل الرسائل التي سبقته والتي جاءت بعده، ففي رسالة المسيح طابع مختلف عن رؤية الغير وقبول الآخر، والخروج من حيذ الذات لتنفتح النفس علي الآخر وادراك الحياة بصورة المحبة، وفي شخصية المسيح الأنجيلية لا تقتصر رسالته علي التعاليم فقط، بل أيضا علي القدرات الإلهية التي صنعها المسيح في رحلته علي الأرض، ومن خلال شهادة الأنجيل عن  قدرة يسوع علي صناعة المعجزات والعجائب، بجد المسيح بصورة وسلطان لم يظهر به نبيا سبق مجيئه، كانت قدرة المسيح علي صناعة المعجزات تتضمن جميع الجوانب التي تسير بخارج ارادة البشر، فمن خلال شفاؤه للأمراض المختلفة كان المسيح يعلن عن قدرته علي الجسد البشري الذي جبله، ولم تتوقف معجزات المسيح علي شفاء الأمراض وحسب بل طال سلطانه الموت الذي يشكل معضلة محيرة للبشر، فقد أقام المسيح ليعازر بعد أن مات وأنتن في القبر بكلمة منه ووقف جمهور اليهود مندهشين من قدرته علي الموت، فيشهد التوراة عن إيليا النبي الذي سبق مجئ المسيح بقرون عدة انه أقام ابن أرملة صرفة صيدا من الموت ولكن بصلاته لله وتضرعه، ومن خلال قدرة الله وسماعه لمناجاة نبيه قد تمت المعجزة، لكن قدرة يسوع علي أقامة الأموات كانت تختلف كثيرا بالنسبة لليهود الذين شهدوا قدرته في صناعة المعجزات، فلم يسبق لهم أن رؤوا نبيا يقيم الأموات بكلمته، بل حتي بلمسه فقط للنعش يقوم الميت من بيم الأموات كما أقام ابن أرملة نايين كما يشهد الأنجل عن شخص المسيح، وسلطانه علي الطبيعة في تهدئة الأمواج العاتية التي هددت حياة تلاميذة في وسط بحر الجليل، كانت هذه شهادة الأنجيل علي قدرة يسوع الإلهية في صناعة المعجزات والعجائب.

لاهوت المسيح (رؤية كتابية)

كانت شهادة الأنجيل عن عظائم المسيح دليل كتابي علي قدرته الإلهية، وتجسد لقوة الله الغير محدودة في شخص المسيح، ولكن هلي سلطان المسيح توقف عند حدود صناعة العجائب فقط أم أن لساطانه بعد آخر؟ في أنجيل متي الأصحاح التاسع كان لسلطان المسيح المادي والروحي معا القدرة علي مجاوبة اليهود الذين ظلوا متشككين في ماهيته طوال الوقت علي الرغم من قدرته التي رؤوها بأعينهم، فعند رؤيته للمفلوج تحنن عليه بقوله: “ثق يابني مغفورة لك خطاياك” ، فتذمر اليهود علي المسيح محتجين بأن القدرة علي مغفرة الخطايا ليست من سلطات البشر ولكن في سلطة الله وحده، حتي أستجاب المسيح بشكل فعلي لأحتجاجهم  وقال:”أيهما أيسر، أن يقال: مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: قم وامش؟”

كان تساؤل المسيح لليهود يعبر بطبيعته عن سلطانه الغير محدود علي كلا من الجسد والروح ففي قدرته الغير ملموسة غفران الخطايا “ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا علي الأرض أن يغفر الخطايا”، وبالصورة التي يستطيع من خلالها اليهود معاينة قوته كان شفاء المفلوج، حينئذ قال للمفلوج:”قم احمل فراشك واذهب إلي بيتك!” فقام ومضي إلي بيته، فلما رأي الجموع تعجبوا ومجدوا الله.

الطبيعة اللاهوتية

في أنجيل يوحنا الأصحاح الأول، يتكلم الوحي الإلهي ويؤكد لنا طبيعة الله الغير مدركة والغير منظورة، كون الحواس الجسدية لا تدرك إلا الأشياء الملموسة والمجردة، “الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر”

وبالحديث عن الطبيعة اللاهوتية يجب علينا ادراك ماهية أمكانياتنا الجسدية والعقلية في المعرفة، كون المعرفة الروحية تختلف بالضرورة عن المعرفة المادية، ففي العلم إمكانية معرفة تفاصيل كل ماهو ملموس ومادي، إما عن المعرفة الروحية فتختلف بالضرورة، ومعرفة الله لا تأتي بنفس الآليات التي نستخدمها في معرفتنا المادية، بل بالأختبار دائما، ومن هنا نتحدث عن طبيعة الله في المسيحية كما أعلنها لنا الكتاب المقدس.

في المسيحية الله واحد، لا شريك له، فالمسيح هو ابن الله الذي تجسد وقد أخبرنا عن طبيعة الله، وليس بشكل معرفي مادي جامد، بل بصورة روحية تختبر، ففي أنجيل يوحنا الأصحاح الأول يخبرنا الأنجيل عن طبيعة الله، “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شئ به كان، وبغيره لم يكن شيئا مما كان”

فالله في المسيحية يتجسد بكلمته بواسطة روحه القدوس في يسوع المسيح، فلو لم يكن التجسد لما كنا عرفنا الله معرفته معرفة حقيقة، يذكرني ذلك بتفاوت الزمن والمكان بيننا وبين الآخرين الذين يقبعون في بقاع تبعد عننا مئات الأميال في حقب متأخرة عنا، فهل نستطيع اليوم أن نتواصل مع شعوب القرون الوسطي؟ بالطبع لا نستطيع، كون تفاوت الزمن والمكان يحكمنا في النهاية، لكن الله أستطاع بتجسده أن يكسر الحاجز الذي وقع بين البشر وبينه من خلال الخطية، ففي تجسد الله كان الأتصال المباشر والمرئي بين الله والبشر، فالبشرية لا تستطيع المعرفة إلا من خلال المادة، فبتجسد المسيح أعطانا القدرة علي معرفته، أعطانا القدرة بشكل مباشر علي سماع كلمته، فالتجسد كان ضرورة للبشرية حتي نستطيع التواصل مع الله بشكل مباشر بقدرتنا البشرية التي خلقنا عليها برؤيته في صورة الجسد.

الاب هو وجود الله غير المدرك، والابن هو كلمة الله المتجسد في صورة الإنسان، والروح القدس روح الله المحرك للحياة كلها، ليسوا اشخاصا أو إلهه متعددة الوجود، بل إله واحد بأقانيمه الثلاث، وكلمة أقنوم لا تعني شخصا، بل تعني من له تميز دون انفصال ، فالله ذاتي الوجود واجب الوجود وجوده يملئ الكون كله ولا حدود له ولا يحد وجوده زمان ولا مكان فهو الوجود غير المدرك، وناطق بكلمته التي بها كان كل شيئا، وبغير كلمته لا يكون شيئا أبدا، فهو تجسد بكلمته الناطقة لنا في صورة الابن الذي بارك الطبيعة البشرية وجددها بتجسده، وروحه القدوس مانح وباعث للحياه

ففي معرفة طبيعة الله معرفة روحية وليست مادية، لايمكننا معرفة الله من خلال مقياس المنطق الذي يحكم العلوم المادية، وانما معرفة الله في المسيحية تتم من خلال الاختبار بمعرفة الله، وأما عن التفسير الخاطئ لطبيعة الله في المسيحية والذي ظهر منذ قرون عدة، كانت نتيجة لمحاولة تفسير طبيعة الله بشكل مادي، وهذا بالضرورة غير معقول! فإنت لا تستطيع ادراك الله وطبيعته الغير محدود بحواسك المحدودة في الادراك، فالله في المسيحية ليس ثالث ثلاثة، بل نتفق دائما أن الشرك هو وضع المخلوق داخل  أطار عبادة الله، ففي المسيحية لا نأله يسوع المسيح، بل نؤمن أن الله تجسد في شخص يسوع المسيح وفي ذلك فارق كبير.

والفي حديثنا عن الثالوث القدوس نقصد دائما طبيعة الله الواحد الذي عرفناه واختبرناه من خلال حياتنا، فعمل الله في حياة الإنسان من خلال اقانيمه الثلاث هو مبدأ الإيمان المسيحي وكان موضوع رسالة المسيح علي الأرض.

لاهوت المسيح والتاريخ

المسيح منذ القرون الأولي للمسيحية (إلوهية أم نبوة؟)

طرحنا في الفقرتين السابقتين رؤية الأنجيل للمسيح كونه الله المتجسد وطبيعة الله الغير مدركة، وتكلمنا عن التفسير الخاطئ والشائع عند البعض من غير المؤمنين، ففي ذلك التفسير الخاطئ لطبيعة الله في المسيحية طرق كثيرة من الأكاذيب والمغالطات المنطقة التاريخية التي يكذبها التاريخ المحفوظ حتي يومنا هذا، ففي بعض الأحاديث التي تطرح حول تاريخ المسيحية يتكلم البعض بكل ثقة عن تحول شخصية المسيح عبر تحريف كلمات الأنجيل من مجرد نبي إلي إله، فيظل التساؤل قائما: هل بدأت بشارة المسيحية بإلوهية المسيح أم بنبوته؟ وهل الأنجيل كتاب تم تحريفه من قبل المسيحيون الأوائل؟ وما دافعهم لذلك؟

في أنجيل يوحنا الأصحاح الرابع عشر يطلب فيلبس من المسيح قائلا:”يا سيد، أرنا الاب وكفانا”، وكان القصد من طلب فيلبس هو رؤية الله بوجوده الحاضر، فقال له يسوع:”أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس! الذي رآني فقد رأي الاب، فكيف تقول إنت أرنا الاب؟”

كان جواب المسيح علي طلب فيلبس يؤكد علي شهادة المسيح لذاته إنه الله، فمن عرف المسيح فقد عرف الله، لأن المسيح من خلال الأنجيل ليس نبيا، بل هو الله المتجسد الذي ختم عصر الأنبياء، فينتهي بمجئ المسيح عصر النبوة بتحقيق جميع النبوات التي سبقت مجيئه بتجسده وصلبه وقيامته في اليوم الثالث، ومن منطلق إلوهية المسيح بدأت البشارة من بعد صعوده إلي السماوات، فمنذ اللحظة الأولي للمسيحية ومن قبل تدوين الأنجيل حتي كانت أصوات المبشرين تعلو بلاهوت المسيح وليست نبوة، لأن وحدة الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم والجديد تكلمنا عن خطة الله في خلاص البشرية، من خلال تجسده في شخص يسوع المسيح.

فلم يكن المسيح يوما في تريخ المسيحية نبيا، بل هو الله المتجسد، وحتي من خلال دراستنا لتاريخ الكنيسة نجد أن الكنيسة بداية من القرن الرابع الميلادي قد تصدت لجميع المحاولات حديثة العهد علي التقليل من شأن لاهوت المسيح بالنسبة للمؤمنين، كما حدث في الثلاث مجامع (نيقية، والقسطنطينية، وأفسس)، والذين عقدوا من أجل أنكار الأفكار التي نادت بما يخالف العقيدة المسيحية بخصوص لاهوت المسيح وطبيعته.

وكما بدأت البشارة بلاهوت المسيح هكذا أستمرت، مرورا بكتابات الأباء الأوائل في العصور المبكرة للمسيحية، كما في كتابات القديس يوستينوس الفيلسوف الفرن الثاني الميلادي، والقديس إيرينيئوس القرن الثالث الميلادي، والعلامة ترتليان القرن الثالث الميلادي، فمن خلال كتابات المسيحيين منذ القرون الأولي نستطيع أن نكشف الوجه التاريخي الحقيقي للاهوت المسيح، فمتي كانت البشارة بنبوة المسيح؟ ومتي قال المسيح إنه نبي من عند الله، وما هي الكتابات المبكرة والسجلات التي تشهد عن نبوة المسيح؟ ومن خلال طرحنا لتلك الأسلئة ستكون الأدلة التي تدعم ذلك الموقف لا وجود لها من الأساس.

فالبشارة بالمسيح بدأت من لحظتها بلاهوت المسيح كما أخبرنا عن نفسه في الكتاب المقدس، وهكذا طفق تلاميذ المسيح ورسله مبشرين بالخبر السار الذي هو تجسد الله، من خلال القوة التي أعطت لهم من قبل الروح القدس، وبشاهدتهم لقيامة المسيح من بين الأموات، فقيامة المسيح كانت البزرة التي أثمرت المسيحية فيما بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *