من منطلق البحث في الظواهر الاجتماعية وتفاصيلها، نواجه التأثيرات الجغرافية والفوارق الطبقية والثقافات الحضارية والدينية التي تخضع لها الشعوب دائما، حيث التأثير المباشر والضروري الذي يخضع له الأفراد داخل المجتمعات في تكوين رؤيتهم وسلوكهم، وهذا ما يشكل بالضرورة التفاوت الكبير الذي يقسم بين مجتمع وآخر، حتي في أدق تفاصيل الحياة والمعيشة والسلوك العام الذي يميز الأفراد داخل المجتمع، وكما يقول الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي: “كل شئ في الإنسان عادة. إن العادة هي المحرك الكبير للحياة الإنسانية”.

لذلك عند التعرض لمحاولة تفسير وتفكيك سلوك الأفراد داخل المجتمعات، فلا مناص من دراسة العقل الجمعي الذي يغدو ظله داخل أذهان الأفراد، فيتحول الفرد من الوعي الفردي الذي يحتكم فيه إلي منطقه ورؤيته ليستقر اخيرا داخل القطيع البشري المحكوم برؤي تشكلت نتيجة التحول إلي العقل الجمعي الذي يؤدي في النهاية إلي تكوين العادة، والتي تصبح فيما بعد ظاهرة اجتماعية.

ومن النظرة الثاقبة تجاه مجتمعات الشرق الأوسط نجد أن العنف بات الظاهرة الأكثر أنتشارا في السنوات الأخيرة، وفي أنتشار ظاهرة العنف مساس بكل طبقات المجتمع حتي يتحول في النهاية إلي ثقافة تتربي عليها الأجيال، فيتحول العنف من مجرد شعارات يمكن أن تلوح بها القوي السياسية تجاه بعضها البعض إلي طريقة حياة تعاني منها الأسرة، ومن خلال الدراسات التاريخية والاجتماعية لنهضة المجتمعات تتسم النهضة الثقافية بمدي أرتقاء دور المرأة علي المستوي الاجتماعي الذي يشمل حق المرأة في الحياة بدورها الكامل دون مخاوف أو تهديدات تكمن في توجيه العقل الجمعي ضد المرأة وحريتها  تحت دوافع سياسية أو دينية.

 وفي سعينا الحالي محاولة مناقشة ظاهرة العنف ضد المرأة وموقف المسيحية من تلك القضية في ظل تحليل اجتماعي ورؤية مسيحية، لنصل إلي هدفنا المنشود وهو أحتياج المجتمات لا إلي المسيحية كبديل عن أيديولوجيات سابقة بل أحتياج المجتمعات إلي المسيح نفسه، الذي وقف في يوم من الأيام علي تلك الأرض راعيا ومخلصا لشعب يغرق في ضحل التقليد، داعيا إلي الحرية المنشودة التي في عمقها يتحرر الفرد من دوره كرقيب أخلاقي وقاضيآ دينيآ مسببآ المزيد من المعاناة لمن هم تحت سطوته.

نظرة المسيحية للمرأة

حتي نتمكن  من تحديد نظرة المسيحية للمرأة علينا التوجة إلي البداية نحو المرأة الأولي كخليقة الله وصنعه المبارك، ففي سفر التكوين الأصحاح الثاني يقول الله في الوحي الإلهي: “ليس جيدا أن يكون يكون آدم وحده، فأصنع له معينا نظيره”

ومن هنا كانت بداية النظرة المسيحية للمرأة المستمدة من قصة الخلق، حيث كانت البداية في مباركة الله لآدم عن طريق خلقه وهبته امرأة، وذلك لأن المرأة في المسيحية هي الخليقة المباركة، والإنسان كامل الإرادة والحرية، فقد خلق الله المرأة علي صورته ومثاله كما خلق آدم أيضا، ومن هنا فلا وجود للسلطة الذكورية التي تتسم بها بعض المجتمعات في محاولة تشويه طبيعة المرأة المباركة عن طريق إنقاصها فيما يخص الرجل من طبيعة كالعقل والدين!

فطبيعة المرأة متساوية مع طبيعة الرجل في كل شئ كما الفضيلة والأخلاق، والفروق بينهما هي مجرد فروق خارجية تتمثل في أختلاف الطبيعة الجسدية بينهم.

ففي سفر التكوين الأصحاح الثاني أدرك آدم كرامة المرأة المعطاه له من الله. لذلك دعا آدم اسم امرأته “حواء” لأنها أم كل حي، أي أن كرامة المرأة في المسيحية تتجسد في قيمتها الذاتية لكونها ام  لكل حي.

ثم يأتي دور المرأة المبارك في الخطة الإلهيه لخلاص البشرية بعد السقوط جراء عصيان الله، وطرد آدم وحواء من جنة عدم ووعد الله لحواء في سفر التكوين الأصحاح الثالث، فقد وعد الله حواء بتعويض خزيها من الشيطان بأن يقيم عداوة بينها وبين الحية التي هي رمز للشيطان وقيام عداوة بين نسل الحية الذي هو نسل الشيطان وبين نسل حواء المبارك الذي هو الإنسان ومن ثم مباركة الطبيعة الإنسانية بالكامل بتجسد المسيح ذاته من السيدة العذراء مريم، فمن غير الممكن أن يتجسد الله من رحم النقص والدناءة! لذلك كانت الكرامة والقداسة نصيب المرأة في تاريخ الكتاب المقدس.

إشكالية تقليد المجتمع والدين ضد المرأة (تحليل اجتماعي)

تتعدد قضايا المجتمع الحديث حاليا، وطرق طرحها بين مواقع التواصل الاجتماعي والصحف المحلية والعالمية في محاولة تفسير ظاهرة العنف ضد المرأة، ولكن علينا مواجهة بعض الحقائق التي تشكل دافعا ذكوريا كما تلقبه المنظومات الحقوقية التي تهتم بالدفاع عن حقوق المرأة حديثا، ففي ظل تعالي الهتافات وبروز بعض الشخصيات الذين يتخذون من مواقع التواصل الاجتماعي والميديا منبرا لهم لنشر بعض الأفكار الدينية ذات مرجعية أصولية  تخص هوية المرأة وتشكيلها في المجتمع الحديث نجد في المقابل ازدياد غير مسبوق في أحداث العنف ضد المرأة!

فبحسب دراسة أجراها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء  في مصر حول ظاهرة ممارسة العنف ضد المرأة، نشرت في مجلة السكان، إصدار يونيو 2017 فإن ما تبين من الإحصائية قد يثير الفزع، حيث وضحت الإحصائية تعدد صور العنف ضد المرأة من ختان وتحرش وعنف أسري وبدني ونفسي وجنسي

فبحسب الإحصائية حوالي90% من النساء قد تم ختانهن، و42.5% يتعرضن للعنف علي يد الأزواج، و35.1% يتعرضن للعنف البدني، و47.5% يتعرضن للعنف النفسي، و14.5% يتعرضن للعنف الجنسي!

وأوضحت الدراسة أن 86% من النساء اللاتي تعرضن للعنف يعانين من مشكلات نفسية لا يستطعن تجاوزها، وتصل الخسائر المباشرة للمرأة جراء تعرضها للعنف سنويا إلي 1.49 مليار جنيه!

تلك الإحصائية المرعبة التي تضعنا اليوم في مواجهة الأسباب بشكل مباشر، لنبحث بين طيات العقل الجمعي عما يميل إليه الأفراد لمحاولة تبرير العنف الموجه ضد المرأة، لنجد أن اكثر الأسباب شيوعا هي النزعة الدينية التي تدفع الأفراد لأرتكاب المزيد من العنف ضد المرأة، فتتفاوت الأحداث بين الوصم الاجتماعي والأنتقام من أجل الشرف كما تقدم المبررات دائما، فنظرة الأفراد التقليدية للمرأة والمستمدة بشكل مباشر من الأعراف الدينية التقليدية، تجعل منها كائنا أقل قدرة علي التفكير وأتخاذ القرارات، ومن ثم فهي تخضع للسلطة الذكورية القائمة علي نظرة الضعف للمرأة، ويتباعد الوصم الاجتماعي بين الرجل والمرأة، كون المجتمع يمثل رؤية وإرادة الرجل الواحد ذو الثقافة الشرقية التي ترجع إلي النظرة الدينية الشرقة تجاه المرأة، فالمرأة هي الشرف والتبعية التي تخص الرجل وليس كائنا مستقلا ذو عقل وإرادة، لذلك تزداد أحداث العنف ضد المرأة كلما توغلت النظرة الدينية التلقيدية داخل أذهان الأفراد في مجتمعاتنا، ففقدان الشرف يتبعه الإنتقام دائما، ولا مساواة في تقييم الأخطاء بين الرجل والمرأة، فالمرأة دائما تحمل عار الأثم دونا عن الرجل! وهذا ما دفع الكاتب والباحث المغربي عياد أبلال إلي مناقشة ظاهرة العنف الجنسي والجسدي والنفسي ضد المرأة في كتابه الشهير ” الإخفاق الاجتماعي” في حصر دور المرأة كأداة جنسية فقط يتمتع بها الرجال.

موقف المسيحية من قضية العنف ضد المرأة (رؤية مسيحية)

كانت المسيحية منذ نشأتها وحركتها الأولي نابذة لكل أشكال العنف ضد الأفراد تحت أي دافع ومبرر، وهذا لم يكن تعبيراعن رفض المسيحية للفعل الخاطئ والخطية الروحية والجسدية، فقد قال المسيح في انجيل متي الأصحاح الخامس: لا تقاوموا الشر، والمقاومة عند المسيح تكمن في أبراز وجه العنف ضد من يرتكب الشرور، كون الإنسان في المسيحية صاحب الرؤية والقرار الفردي والأختيار الذي يخصه تماما، ويسأل عنه أمام الله، ففي المسيحية تجديد من التراث الديني اليهودي الذي دعي إلي تطبيق حدود الشريعة والعقاب البدني والنفسي علي الشخص الخاطئ، وعوضا عن ذلك كان المسيح هو المخلص الذي يحمل بشارة الغفران لكل من اثقلتهم هموم الخطية، محاكمون بشريعة التقليد، وأما عن التجديد الذي دعي إليه المسيح في عمقه كان الأساس لإلغاء وصاية الأفراد علي بعضهم البعض، فزمن المسيح هو زمن الخلاص والتوبة وليس زمن محاكم التفتيش الذي ينصبها بعضهم لبعض، وفي قول المسيح في انجيل متي الأصحاح السابع: لا تدينوا لكي لا تدانوا، هو الرفض القاطع لمحاكم الأخلاق والشرف التي تعاني بسببها المجتمعات الشرقية حتي يومنا هذا، وينتج عنها المزيد من العنف، لأن في لب العنف ادانة الغير وتبرير للذات، وعوضا عن الرحمة والمغفرة تكون القسوة والتعنيف.

ومن خلال البحث في تاريخ المسيحية الغربية، نجد أن الأنحراف عن فكر المسيح يؤدي بالضرورة إلي النتيجة العكسية نحو طرق التقدم الاجتماعي الذي تدعو إليه المنظمات الحقوقية والاجتماعية في عصرنا الحديث، فعندما عاشت الكنيسة الكاثوليكية فيما نسميه نحن المسيحيون حاليا ب “عصور الظلام”، فقد نصبت الكنيسة محكمة قاسية لمعاقبة الأفراد عما يقترفوه من خطايا، وباتت صكوك الغفران تباع لمن يطلب عفو الله ونعمته الممنوحة مجانا لخليقته! إلي أن جاء اللاهوتي مارتن لوثر بثورته  في القرن السادس عشر الميلادي، لتنتهي وبذلك تنتهي حقبة الظلام التي كانت نتيجة الأبتعاد عن فكر المسيح، لتتعلم الكنيسة الكاثوليكية اليوم ثقافة الأعتذار عما اقترفته من أخطاء في تاريخها، ولتتحول عصور الظلام التي عاشتها الكنيسة بعد ذلك إلي درس عملي يشهد علي عظمة تطبيق تعاليم المسيح في المجتمعات وليس نقطة سوداء في تاريخ المسيحية، لتنبذ المسيحية بشكل مطلق قضية العنف بجميع أشكالها.

المسيح والمرأة وجها لوجه

نتجه في سردنا لقضية العنف ضد المرأة إلي تساؤل موجه لشخص المسيح ذاته: لو كنت ههنا يا سيدي ماذا كنت لتفعل؟ ماذا كنت لتحكم؟

يسرد لنا الكتاب المقدس حدثا حيث يلتقي فيه المسيح وجها لوجه مع المرأة التي تعاني جراء عنف المجتمع ضدها، ففي انجيل يوحنا الأصحاح الثامن يضع المجتمع اليهودي التقليدي المسيح أمام الأختبار، وذلك بهدف البحث عن مبرر لمحاكمتة، حيث صورة المرأة في المجتمع اليهودي التقليدي لا تختلف كثيرا عن صورتها الحالية في مجتمعاتنا الشرقية، كانت المرأة هي الأختبار.

علم اليهود بأمر امرأة زانية بينهم في المجتمع، وقد نصت شريعة اليهود علي رجم الزانية، فأمسكوها في ذات الفعل متوجهين بها نحو المسيح، وكان سؤالهم له: “يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسي في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت؟”

 ففي لحظات قليلة يتحول المسيح إلي دور القاضي الذي يحكم علي تلك المرأة، اما أن يبرئها ويقف هو مدان بتهمة نقد شريعة موسي، كونه مواطن يهودي يخض للشريعة أو يدينها ويسمح برجمها وفي ذلك تناقض لكل تعاليمه!

وأما عن المسيح فلم ينكر فعلتها، لم ينتقد الناموس الذي به يدان الإنسان علي خطاياه، ولكن ههنا برز الدور الذي من اجله جاء المسيح لعالمنا المتهالك ليعيد صياغة مفهوم الإنسانية من جديد، لم يجيبهم المسيح في البداية، كان يتأمل فيما آلت إليه البشرية من ظلام وتنصيب أنفسهم آلهه تحاكم بعضها البعض، فقال لم يسوع: “من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر!”

تلك الجملة الشهيرة التي خلدها التاريخ حتي خارج نطاق المسيحية، كدلالة علي عدم احقية البشر في محاكمة بعضهم البعض، لم ينكر المسيح فعلتها ولكن من له الحق في محاكماتها والبشرية برمتها تخضع للضعف؟ من هو البار الذي يحق له رميها بحجر؟

فبعدما ادركوا حكم المسيح أخيرا بكتتهم ضمائرهم، منسحبين من المشهد واحدا تلو الآخر بداية من الشيوخ، ليقف المسيح في النهاية وحيدا في المشهد أمام تلك المرأة الخاطئة التي تعاني من حكم المجتمع علها، فيسألها يسوع: “يا امرأة، أين هم المشتكيون عليك؟ أما دانك أحد؟”

فقالت: “لا أحد، يا سيد”

فقال لها يسوع: “ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضا”

ففي بشارة المسيحية يتجسد ابن الله الحي ، معلنا عن ذاته للبشرية، متخذا هيئة الإنسان حتي نعرفه حق المعرفة، فقد شابهنا في كل شئ عدا الخطية، لكن رسالة يسوع المسيح الذي بدأت من المجتمع اليهودي قديما لتصل إلي جميع الكائنين علي وجه المسكونة، تحمل بشارة السلام بتحرير الإنسان من السعي والتركيز علي ما أقترفه غيره من خطايا، ففي زمن المسيح لا يدان البشر ولكن يدعون للتوبة، وفي عمق رسالته يتحرر الإنسان من سخطه ونقمه المستمر علي خطايا الغير، في رسالة المسيح محبة ومساواة بين جنس الرجل والمرأة، ومباركة الطبيعة الإنسانية بكاملها، فلم تعد المرأة تتحمل نير الخطية وحدها طلاما شمل فداء المسيح الجميع، ومنح مغفرته المجانية لجميع خلقته رجالا ونساء، فما أحوج مجتمعاتنا اليوم إلي المسيح الذي يفدي ولا يطلب الفداء من أحد! ما أعوزنا إلي المسيح الذي يهب الحياة للخطاة لا ليسلبها منهم! فلا فارق بين المجتمع اليهودي قديما ومجتمعاتنا الحديثة اليوم، فكلاهما عاني من العنف ضد المرأة  نتيجة التقليد  فمجتمعاتنا اليوم ليست بحاجة إلي مزيد من سن القوانين والتشريعات بقدر حاجتها إلي المسيح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *